في كل الدول التي تحترم نفسها، يوجد آفاق لمستقبل ما، ويمكن لأي مواطن أن يعرف أين سيكون وكيف سيكون بعد عشر سنوات على الأقل، وهو ما يسمى الأمان، والذي يحتاجه أي مواطن من أجل أن يعيش بطريقة عادية، وحتى لا يعلو ضغطه أو يهوي، أو يصاب بأي انهيار عصبي أو قرحة معدية. لكن، للأسف، هذا الأمر الذي يبدو بسيطا غير متوفر في بلادنا، فلا أمان ولا استقرار، وحكومة هذا البلد وحكامه أشبه بأشخاص غير أسوياء، لا همّ لهم سوى تدمير هذا البلد وترك مواطنيه على كف عفريت باستمرار.
ما يلفت الانتباه في ظل الأوضاع التي تعيشها بلادنا والأزمات المستمرة أن لا أحد يشعر بالأمان، ولا أحد ينعم بالاستقرار، حتى أولئك الذين يحكمون هذا البلد ويقبضون على رقاب مواطنيه وسكانه، لأنهم أيضا يتخبطون بما فعلت أيديهم، ولا يشعرون بأي نوع من الطمأنينة، لأن المياه الراكدة يمكن أن تتحول إلى أمواج هائجة وقاتلة في أية لحظة. ولعل هذا السبب الذي يجعل الجميع يفكر في الهروب إلى الخارج، والذهاب إلى أوطان يعرف الواحد فيها رأسه من رجليه.
والهروب من الوطن هو تقريبا المجال الوحيد الذي تساوى فيه الجزائريين، فأصحاب السلطة والمال يهربون بنمط معيشتهم وبالأموال التي يهرّبونها إلى البنوك الأجنبية وبعدد الأشهر في السنة التي يقضونها خارج الحدود، وكذا بأبنائهم الذين يرسلونهم للدراسة بأموال الدولة، ويبقون غالبا هناك إما للعمل في شركات ومؤسسات الدولة أو للعمل في نشاطات أخرى، لو شرعنا في سرد عدد المسؤولين الذين فضلوا أن يكون مستقبلهم في فرنسا أو بريطانيا أو أمريكا، لما كانت صفحات هذه الجريدة كافية.
والمواطن البسيط أيضا يريد الهروب من هذا الوطن الذي سلب منه بدون وجه حق، وهو ما جعله يتأكد أنه لا أمل يرتجى من وراء البقاء فيه، لذا ابتكر تلك الطريقة العجيبة والمحزنة في نفس الوقت والتي أضحت تعرف بـ''الحرافة''، وهي وليدة تسعينيات القرن الماضي، عندما كان الشباب يفر من جحيم الإرهاب وشبح الحرب الأهلية الذي كان يتهدد الجزائر، ولكن ''حرافة'' التسعينيات كانوا يتسللون إلى الموانئ ويختبئون في السفن التجارية ليصلوا إلى أحد الشواطئ الأوروبية، وتفاقمت الظاهرة بشكل مخيف بما يتناسب مع التدهور الذي عرفته أوضاع الجزائريين، رغم البحبوحة المالية التي عرفها البلد خلال العشر سنوات الماضية، وأصبح عشرات الجزائريين يركبون قوارب الموت ليس بالضرورة للوصول إلى الصفة الأخرى من المتوسط، وإنما ليغادروا الجزائر فقط.
إن كل من يتابع الأوضاع في بلادنا يشعر بأننا نعيش في حالة تخبط مستمرة، وأننا نطبق منطق ''احييني اليوم واقتلني غدوا''، فلا استقرار لسياسة ولا لقانون ولا لاستراتيجية، وكل شيء قابل للإلغاء والتغيير والتحول 180 درجة بين ليلة وضحاها.
هذا الواقع يجعل الجزائر تعيش بعقلية ''فليكسي''، ففي كل مرة يضاف لها رصيد بقدرة قادر، لكن هذا الرصيد معرض للنفاد في أية لحظة، والمصيبة أن ذلك متواصل رغم مرور قرابة نصف قرن عن الاستقلال.
الطريقة المستهترة التي تصدر بها الحكومة قرارات ثم تتراجع عنها ثم تتراجع عن التراجع، توحي أن مصير البلد واقتصاده ومستقبل شعبه لعبة ورهينة أهواء وأمزجة أشخاص وصلوا أو أوصلوا إلى مناصب المسؤولية على أساس مئات الاعتبارات والمواصفات، باستثناء الكفاءة والنزاهة وروح المسؤولية، ومعظمهم صنعوا لأنفسهم مستقبلا في دول أخرى، لأنهم لم يؤمنوا يوما بهذا البلد، ولديهم استعداد دائم لمغادرته في أي لحظة.
لقد قتل النظام الحاكم الأمل في نفوس الجزائريين، وفي كل مرة يرى هؤلاء بصيص أمل، ويعتقدون أن أبواب الفرج بدأت تنفتح في وجوههم، يأتي من يغلق هذه الأبواب ويشيد مكانها أسوارا من الإسمنت المسلح، وبعد كل هذا يأتي من يتهم الصحافة المستقلة بأنها تعمل على تيئيس المواطن، في أن السلطة هي التي تعمل على استئصال الأمل من النفوس.